غزة – لم تكن سوى عشر دقائق من الراحة، خطفها الصحفي الفلسطيني عبد الرؤوف شعت بجوار خيمته المؤقتة قرب مستشفى ناصر في مدينة خان يونس، حتى مزّق صاروخ إسرائيلي صمت الليل، مستهدفًا خيمة قريبة.
وبينما هرع شعت حاملاً كاميرته لتوثيق الحدث، لم يكن يتوقع أن يلتقط عدسته مشهدًا مفجعًا: جسد زميله الصحفي أحمد منصور يتفحم وهو جالس على كرسيه في الخيمة، تلتهمه ألسنة اللهب.
يقول شعت لـ”نيوز عربي”: “تجمدت في مكاني. لم أصدق عيني، لكنني لم أسمح لواجبي الإنساني أن يتأخر، ألقيت الكاميرا وركضت نحو أحمد”.
محاولة إنقاذ بطولية وسط النيران
دون تفكير، اقتحم شعت ألسنة النار محاولًا سحب زميله، لكن شدة الحرارة منعت ذلك في البداية. ومع ذلك، لم يتراجع، بل حاول الالتفاف من زاوية أخرى، غير أن النيران كانت أسرع. يروي: “لم أفلح في سحبه، النيران كانت كثيفة. لكنني لم أستسلم، جمعت وزملائي زجاجات الماء من الخيام المجاورة وأخمدنا النار عن جسده”.
وعلى الرغم من نجاحهم في إخماد الحريق، إلا أن الأوان كان قد فات لإنقاذ أحمد منصور، الذي لقي حتفه في موقع عمله.
أما شعت، فقد سقط مغشيًا عليه بعد لحظات من الجهد والتوتر، وأصيب بحروق في يده، لتبقى شاهدة على ما وصفه كثيرون بـ”الموقف البطولي” الذي هز منصات التواصل الاجتماعي.
الألم لا يغيب.. والكاميرا لا تسقط
ورغم الكارثة، لم يتراجع شعت عن مهمته. مع أول ضوء للصباح، حمل كاميرته مجددًا وشارك في توثيق جنازة زملائه. يقول لـ”نيوز عربي”: “لم ينتهِ الوجع بعد. صورة أحمد وهو يحترق لا تفارقني، تطاردني حتى في نومي، لكنّها أيضًا تدفعني للاستمرار”.
يتابع شعت بأسى: “مشهد أولاد أحمد الثلاثة وهم يحيطون بجثمانه، وانهيار زوجته في وداعه، كان أكثر وجعًا من أي صورة التقطتها. لكننا سنكمل الطريق، سنفضح جرائم الاحتلال الإسرائيلي مهما كان الثمن”.

شوق الصحفي الأب
بملامح صارمة يعتريها الألم، يحمل الصحفي أنس الشريف هاتفه ويتصفح مشاهد احتراق زميله ومشاهد وداع أطفاله له، وبينما هو كذلك، باغتته رسالة صوتية من طفلته شام التي لم يرها منذ استئناف الحرب قبل أقل من شهر، تقول فيها “بابا اشتقتلك، إنت مطوّل ؟!”.
يعيد أنس سماع التسجيل مرارا ويفضح شوقه عيناه، كما بكل مرة يسمع فيها صوت أطفاله وهم يطلبون منه الرجوع إليهم، ويُعجزه أن يشرح لهم أن سبب غيابه هو خوفه عليهم بأن يطالهم الأذى، فتهديدات الاحتلال لأنس ليتوقف عن التغطية ما زالت مستمرة.
وهو حتى الآن لا يزال يتعرض لتحريض وتشويه إسرائيلي متعمد، لكنه لا يكترث، ويقول للجزيرة نت “لو كنتُ خائفا حقا لاختفيت عن الشاشة وتوقفت عن التغطية، وإن كان من خوف لدي فهو على أطفالي وعائلتي أن يصابوا بأذى”.
ولا يبدو العمل تحت التهديد هيّنا على أنس، ولا ينفي أنه يمر بلحظات من الضعف واليأس حين يرى زملاءه يستشهدون تباعا، لكنه في الوقت ذاته، يرى أن ذلك يزيد العبء عليه بإكمال ما انتهى أصدقاؤه إليه من نشر الحقيقة وفضح جرائم الاحتلال الذي يتعمد منع كل الوفود الصحفية الأجنبية دخول غزة، كي “يستفرد بسرديته مغيّبا الرواية الفلسطينية عن المشهد”.
ويقول أنس “نحن آخر قلاع غزة وصمودنا بالميدان هو بقاء للصورة رغم انعدام رجع الصدى، لن نيأس وسنستمر حتى آخر رمق، علّ نقلنا لمشهد أو صورة يكون سببا بتحرك العالم”.
وبعد اللقاء، تجهّز أنس للظهور المباشر عبر قناة الجزيرة، وبينما هو كذلك التف حوله حشد من الناس يصافحونه كبطل عنيد ينقل صوتهم غير آبه بالتهديد، ويدعونه للانتباه لنفسه، وسط خوف يملأ أعينهم.

الثأر المشروع
خوف مشروع يقابله صراعات داخلية يعيشها الصحفيون خاصة من لديهم عائلات، وتقول الصحفية ربا العجرمي وهي أم لـ4 أطفال، للجزيرة نت “هذه حرب مجنونة لا خطوط حمراء للاحتلال فيها، ولا حصانة فيها لصحفي أو امرأة، مما يضاعف مخاوف عائلتي علي”.
ورغم ذلك، تؤمن العجرمي بعدم إمكانية وقفها التغطية بأي حال، وتقول “مع رحيل كل زميل صحفي نشعر بغياب جزء من التغطية فيزيد الحمل على الصحفيين الآخرين”، وتضيف “أعتبر أن طريقة الثأر الوحيدة من الاحتلال على قتل الصحفيين هو تحديه والاستمرار بنقل الحقيقة”. وتؤمن بأن جانبا “عقائديا” لديها بأن الأقدار والآجال مكتوبة منذ الأزل، يمنحها إيمانا بأن توقفها عن العمل ووجودها بالمنزل لن يحميها من الموت.
ووجهت الصحفية “عتبا” للنقابات الصحفية ومؤسسات حماية الصحفيين التي “تركتهم وحيدين” في الميدان، وتقول “حتى الحد الأدنى من تأمين الصحفيين بتوفير معدات السلامة المهنية لم يقدموها، فدروعنا فارغة مهترئة منتهية الصلاحية لا تقي الصحفي من أي شظية يمكن أن تصيبه”.
وبينما أغلقت والدة الصحفية العجرمي أمامها الباب بعد اغتيال زميلها إسماعيل الغول ومنعتها من الخروج خوفا عليها، فإن والدة الصحفي يوسف فارس تحفظ مواعيد ظهوره المباشر، وتتصل لتطمئن عليه عقب ذلك للتأكد من وصوله المنزل.
ويقول يوسف للجزيرة نت “تسألني ابنتاي التوأم دائما عن تفاصيل لا أمتلك لها جوابا، لماذا يُقتل أصدقاؤك؟!”.

الواجب الملزم
سؤال لا يملك يوسف ولا أصدقاؤه إجابة له، سوى أن شهية إسرائيل مفتوحة لقتل الشهود ليكتمل ليل جريمتها بغزة، مما يضعه وزملاءه أمام التزام أخلاقي بضرورة الاستمرار، ويضيف يوسف “لم يعد هناك ما نخاف خسارته سوى احترامنا لقراراتنا، وقراري كان أن لا يموت أهلي في الظلام، وأن لا تتم الجريمة في العتمة”.
ويعتقد يوسف أن التراجع عن أداء “الرسالة السامية” للصحفيين يعطي الاحتلال شعورا بالزهو والإنجاز حين يرى أنه حقق بالموت أهدافه، مضيفا “نحن حين نستمر لا نبطل فعالية أدوات المجرم فقط، لكننا نواصل ترسيخ حضورنا الذي لا يرجوه عدونا”.
التمسك بالبقاء في الميدان، يقابله ضريبة ثقيلة دفعها منذ بداية الحرب أكثر من 211 صحفيا غزيا بدمائهم، التي تبرر إسرائيل سفكها تحت ذرائع واهية دون حساب، في جرائم مركبة يراها العالم مباشرة، ورغم فظاعتها لا يتجاوز صداها سوى ساعات من النعي وبيان من الإدانة وبضعة منشورات على الصفحات الافتراضية.