[ad_1]
حسونة المصباحي: كاتب الترحال بين الشرق والغرب
“إذا أردت أن تتجدد، فاغرب كما تغرب الشمس”— بهذه العبارة للناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو، يمكن تلخيص مسيرة حسونة المصباحي، الكاتب التونسي الذي قضى حياته متنقلًا بين المشرق والمغرب، والجنوب والشمال، في رحلة بحث عن المعنى والمعرفة.
عندما قرر المصباحي مغادرة وطنه لأول مرة، لم يكن يبحث عن وظيفة أو استقرار مهني، فقد استقال من عمله كأستاذ للغة الفرنسية وانطلق شرقًا، مدفوعًا بشغفه بالكتابة والتجربة. زار بغداد، باريس، برلين، طنجة، فاس، لوس أنجلوس، الأندلس، سردينيا، وسراييفو، ملتقطًا أطياف المعرفة والثقافة من كل مكان.
ورغم تعدد اللغات التي أتقنها، ظل المصباحي وفيًا للكتابة بالعربية، مؤلفًا في مجالات الفكر، الرواية، السيرة، الترجمة، والصحافة الثقافية، مع عشق خاص لفن القصة القصيرة، الذي ظل ملاذه الأول والأخير.
الترحال لم يكن مجرد أسلوب حياة، بل كان الجوهر الذي ينساب في معظم أعماله، سواء بشكل واضح وصريح، كما في كتابه “أيام في إسطنبول” الفائز بجائزة ابن بطوطة لفن اليوميات لعام 2024، أو متسللًا بين ثنايا رواياته وسيرته الذاتية.
الكتابة الرحلية: بين اليوميات والتوثيق الأدبي
تُعد الرحلة الحديثة والمعاصرة إحدى أبرز روافد الكتابة عن الذات، حيث استلهمت جذورها من الأدب الجغرافي وأدب البريد، لتتخذ لاحقًا شكلين رئيسيين:
- الرحلة الموضوعية: حيث يدون الكاتب مغامراته وتجربته وفق فصول معنونة، كما فعل الإسباني خوان غويتيسولو في كتابه “رحلات إلى الشرق”، الذي زار فيه غزة، القاهرة، وكابادوكيا.
- الرحلة اليومية: حيث يسجل الكاتب أحداث رحلته يومًا بيوم، كما في “يوميات ميونيخ” و**”أيام في إسطنبول”** لـ حسونة المصباحي.
تتميز اليوميات عن غيرها من أدبيات الرحلة بأنها تعلن منذ العنوان عن المكان، كما هو الحال مع كتاب “يوميات لندن” لـ جيمس بوزويل، الذي وثّق رحلته مع الناقد الإنجليزي الشهير صاموئيل جونسون (1862-1863).
كما أن أدب اليوميات شهد إسهامات بارزة، مثل:
- أندريه جيد في “رحلة إلى الكونغو”, و*”رحلة إلى شمال إفريقيا”*.
- بول كلي في يومياته الرحلية إلى تونس وبلدان المتوسط.
وضمن هذا السياق، يأتي كتاب “أيام في إسطنبول” للمصباحي، الصادر عن منشورات المتوسط، كأحد المراجع الحديثة التي تجمع بين التوثيق الشخصي والتأملات الفكرية.
“أيام في إسطنبول”: كتاب ضد السياحة
يقتفي المصباحي أثر زكي نجيب محمود في “أيام في أمريكا”، حيث يسرد رحلته في الولايات المتحدة (1953-1954). لكن على عكس الانبهار الذي ميز تجربة زكي نجيب محمود، فإن المصباحي يزور إسطنبول للمرة الثالثة، ما يجعل كتابته أقرب إلى التأمل والتدبر، وليس مجرد توثيق سياحي.
فالرحلة اليوم لم تعد لاكتشاف مناطق مجهولة، بل للتفاعل مع المكان، والتقاط تحولات الزمن والمجتمع. وهذا ما يجعل كتاب “أيام في إسطنبول” كتابًا ضد السياحة التقليدية، حيث لم ينتظر الكاتب نزول الطائرة في إسطنبول ليبدأ الكتابة، بل كانت الكتابة قد انطلقت قبيل الرحلة وأثناءها.
الذريعة العاطفية والدافع الذاتي
يفتتح المصباحي يومياته بإشارة حميمية إلى شقيقته نزيهة، التي حالت ظروف جائحة كورونا دون زيارتها تونس، مما دفعه إلى السفر إلى إسطنبول لرؤيتها.
يقول المصباحي:
“أنا أحب أختي نزيهة، لأنها ورثت الكثير من خصال أمي… ولأنها تعيش الحياة ضاحكة لاعبة، فإن أطل عليها ما يشي بالهم والشؤم والنكد، انسحبت هاربة…”
ويستطرد في وصف رحلة أختها مع الاغتراب، متنقلة بين دمشق، بيروت، الإمارات، ثم إسطنبول.
لكن هذه الحميمية ليست مجرد استرسال عاطفي، بل مدخل سردي ذكي، حيث تتحول الأخت إلى ذريعة روائية يستعيد عبرها الكاتب واقع تونس الاجتماعي والسياسي، فيكتب:
“في السهرة لخصت لأختي نزيهة الأوضاع المأساوية في بلادنا… الناس مشغولون طوال الوقت بالبحث عن المواد الغذائية المفقودة… السكر، الطحين، القهوة، الزيت النباتي… الدواء… طوابير أمام المخابز والمحال التجارية… غلاء فاحش…”
ويمتد الوصف إلى الواقع السياسي، منتقدًا سياسات الرئيس قيس سعيد، حيث يقول:
“أما الرئيس قيس سعيد، فقد اعترف بأنه قادم من (كوكب آخر)… ويتكلم لغة لا يفهمها أحد، ويدير شؤون الدولة بحسب أهوائه، ومن دون مستشارين…”
اليوميات بين الصحافة والتوثيق الأدبي
تتماس اليوميات في “أيام في إسطنبول” مع المقال الفكري والسياسي، وكأن الكاتب يتبنى رأي أرنستو ساباتو في كتابه “يوميات الشيخوخة”:
“تبدو لي كتابة اليوميات كأنها نوع من الكتابة يتوسط طريقًا بين التخييل والمقال.”
وهذا ينسجم مع تجربة المصباحي، الذي يدمج بين الذاتي والموضوعي، والسردي والتأملي، جاعلًا من كتابه شهادة تاريخية وثقافية، تتجاوز التوثيق السياحي التقليدي إلى رؤية أعمق للمكان والزمان.
ومن هنا، فإن “أيام في إسطنبول” ليس مجرد سجل رحلات، بل مادة أدبية وسياسية وفكرية، تعكس تجربة كاتب مغامر، يكتب كما يسافر، ويسافر كما يكتب.

يعود حسونة المصباحي في كل مرة إلى أسلوبه السردي المشوق، ذلك الأسلوب الذي يبدو بسيطًا للوهلة الأولى، لكنه يحمل في طياته عمقًا أدبيًا يشبه بساطة همنغواي التي وصفها البعض بأنها “بساطة المستحيل”. فهو يأخذ القارئ من البسيط إلى المعقد بأسلوب سلس، كما يتضح في مستهل يومياته ليوم الأحد 16 أبريل، حيث كتب:
“بعد أن زرت ‘آيا صوفيا’ ومتحف ‘توب كابي’، جلست في حديقة قريبة منهما لأستريح… حرارة صيف لم يأت بعد… في الظل الناعم البارد للأشجار، يحلو التفكير والتأمل والتذكر…”
يعتمد المصباحي على تقنية سردية روائية في يومياته، حيث يحررها من قيود المكان والزمان، متوغلاً في الماضي عبر الذاكرة والتذكر، مما يجعل اليوميات تلتقي بفن السيرة الذاتية والمذكرات. وبذلك، يتجاوز المفهوم التقليدي لليوميات باعتبارها مجرد تسجيل زمني للوقائع، مقتربًا من تعريف فيليب لوجون لها كـ”سلسلة آثار مؤرخة”.
في تلك البداية، يمهد المصباحي الطريق للغوص في تاريخ القرن الثالث، ونشأة المسيحية في آسيا الوسطى، وصولًا إلى قسطنطين الأعظم والبلاط البيزنطي في القسطنطينية. ومن هناك، ينقلك إلى عوالم الأدب العربي القديم، مستعرضًا “الشعر والشعراء” لابن قتيبة و”الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني، ثم يقودك نحو ظهور الإسلام، وفاة النبي، وحروب الردة. وبعد هذه الرحلة التاريخية، يعود بك إلى الحاضر ليهديك عنوان كتاب “إسطنبول: حكاية مدن ثلاث” لكاتبة بريطانية.
المعرفة اليومية عند حسونة المصباحي ليست مجرد تجارب حياتية، بل تمتد إلى القراءة، السينما، والموسيقى، ما يمنح يومياته طابعًا تحليليًا وتأريخيًا يشرّع لطولها، حيث تمتد على عدة صفحات قبل أن ينقلك إلى قسم جديد بعنوان “اليوم نفسه، ليلاً”، ليستكمل سرد رحلاته الفكرية والتجريبية.
هذا الأسلوب الصحفي التوثيقي، الذي يمزج بين التدفق السردي والاسترجاع التاريخي، جعل من كتابه “خمسة أيام في إسطنبول” مؤلفًا غنيًا امتد على 172 صفحة. فالكاتب، وهو في إسطنبول، لا يتحدث فقط عن المدينة، بل يربطها بالأحداث العالمية، مثل الحرب في السودان، حيث يتناول شخصيات مثل الطيب صالح وجعفر النميري، ومن خلال الأخبار اليومية يتغلغل في الأدب، الفنون، السياسة، والدين، ليكشف دور تركيا التاريخي والمعاصر في المشهد العالمي.
اليوميات عند المصباحي ليست محايدة، بل هي ساحة للجدل والصدام الفكري، حيث يحاول عبر أدواته المعرفية والتاريخية فهم العالم من حوله وإقناع القارئ برؤيته. في هذه النصوص، يظهر المصباحي بكامل وجوهه: القاص، الروائي، المفكر، المترجم، الشاعر، المؤرخ، السياسي، الصحفي، والمحقق. الأمكنة التي يزورها تتحول إلى محفزات لذاكرته، حيث يربطها بالواقع الحالي ليشعل تداعيات الأفكار والمشاعر.
بفضل إلمامه العميق بالتاريخ والثقافة، لا يحتاج المصباحي إلى دليل سياحي، بل يتحول هو نفسه إلى دليل للقارئ، الذي قد يكون زار نفس الأماكن دون أن تترك فيه أثرًا. فالأمكنة تكتسب هويتها من وعي من يراها، وهذا الوعي يتغير وفق رؤية الشخص وثقافته. لذلك، لم يذهب المصباحي إلى إسطنبول كسائح، ولم يسعَ لكتابة نص ترويجي عنها، بل زارها كمفكر، ناقد، ومؤرخ.
تعرض بعض المدن نفسها للخطر عندما تستقبل هذا النوع من الزوار، لذا لم يكن غريبًا أن تفرض بعض الأنظمة العربية قيودًا على الكتاب والصحفيين. يذكر المصباحي أنه عند زيارته لطرابلس في عهد معمر القذافي، طُلب منه التوقيع على تعهد بعدم ممارسة الصحافة أثناء إقامته، رغم أن زيارته جاءت بدعوة رسمية من المركز الثقافي التونسي في ليبيا للمشاركة في مؤتمر أدبي.
في يومياته عن إسطنبول، يختبر المصباحي أيضًا فن البورتريه، وهو فن أصيل انتقل من الرسم إلى الأدب. ففي يوم الثلاثاء 18 أبريل، خصص الكاتب جزءًا من يومياته لكتابة ثلاثة بورتريهات لشخصيات تونسية عاشت في إسطنبول: خير الدين باشا، محمد بيرم الخامس، ومحمد علي الحامي، حيث استعرض قصصهم المرتبطة بالإصلاح السياسي والفساد.
لطالما اهتم المصباحي بحركة الإصلاح التونسية، وكتب عن رموزها في مؤلفاته الفكرية، كما خاض تجربة كتابة سيناريو سينمائي حول مصطفى بن إسماعيل، أخرجه فتحي الدغري بعنوان “محضي الباي”.
إن “خمسة أيام في إسطنبول” تمثل لبنة أخرى في مشروع المصباحي الكبير حول “فن اليوميات”، وهو مشروع لا يقتصر على إسطنبول كمدينة، بل يدرس علاقتها التاريخية المعقدة بتونس. لذلك، تخلو اليوميات من الانبهار السطحي بالمكان أو سكانه، فهي ليست رحلة استكشافية أو تسجيلية، بل رحلة فكرية تسبر أغوار العلاقة العميقة بين البلدين.
يستحضر المصباحي في يومياته شخصيات سياسية وأدبية مرت بإسطنبول، مستعينًا بالمصادر التاريخية والأدبية لرواية قصص لم تُكتب من قبل. وقد دوّن أفكاره بشكل يومي أثناء رحلته، ثم عاد إلى تونس حيث اعتزل في بيته الريفي بالقيروان ليحررها بأسلوبه الغزير، كما أشار في منشور له على فيسبوك.
[ad_2]