السويداء: بيارق الدروز ورمزية النضال
تستريح معظم بيارق الدروز داخل ضريح سلطان باشا الأطرش في مسقط رأسه، بلدة القريّا، حيث كانت هذه البيارق شاهدة على حروب طاحنة بدأت ضد العثمانيين وانتهت بجلاء الفرنسيين عن الأراضي السورية في أبريل/نيسان 1946.
ويعرّف بشار أبو حمدان، مؤلف كتاب سيوف وبيارق، البيرق بأنه راية الحرب، وهو رمز إسلامي قديم يرافق الدروز في جميع المعارك التي خاضوها في جبل العرب، سواء ضد العثمانيين أو الفرنسيين. كان البيرق يرمز إلى الشجاعة والعزة والكرامة، وكان يُرفع في وجه المعتدين وفي الاحتفالات الوطنية.
ويُعتبر البيرق جزءًا من التراث الشعبي والوطنية، حيث تُرفع جميع بيارق الجبل في ترتيب خاص، ويتصدرها بيرق السويداء. مع ظهور العلم السوري كرمز جامع للدولة، تضاءل دور البيرق، ولكن تبقى رمزيته قوية في الذاكرة الجمعية لشعب السويداء.
وفي المعارك، يُعتبر حامل البيرق هدفًا رئيسيًا للعدو، إذ يسعى الأعداء لإسقاطه كعلامة على النصر. يتألف البيرق من رمح، وعليه طاسة في قمة الرمح تتوجها حربة، التي يستخدمها حامل البيرق أحيانًا أثناء الهجوم. بالإضافة إلى ذلك، يوجد أسفل الرمح قطعة حديدية مخروطية الشكل تستخدم لتثبيت البيرق في أرض المعركة. أحيانًا يُزيّن البيرق بالريش الطويل والخيوط المتدلية من حوافه، مما يضيف إليه بُعدًا جماليًا ورمزيًا في آنٍ واحد.

آيات وأشعار وأحجام
يقول أبو حمدان، للجزيرة نت، لكل قرية أو بلدة أو مدينة في محافظة السويداء بيرقها الخاص، وهو عبارة عن قطعة مطرزة من القماش ذات شكل مربع أو مستطيل من لون واحد، وعليها أشكال مختلفة لها رمزيّتها التي تخصّ كل بيرق، مثل شكل الكف الخماسي، أو الأيدي المتشابكة، أو السيوف المتقاطعة، أو الهلال، أو نجمة سليمان بن داود، النجمة السداسية (التي تم استبدالها بالنجمة الخماسية بعد عام 1948 تاريخ قيام دولة إسرائيل).
ويُكتب على البيرق، بالإضافة إلى الرموز، آيات من القرآن الكريم كالتي كُتبت على بيرق صلخد “نَصرٌ مِن اللَّه وفَتحٌ قَريب”، أو دعاء مثل الذي كُتب على بيرق السويداء “يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف”، أو قد يحمل البيرق بيتا من الشعر العربي كالذي على بيرق قرية ريمة الفخور (ألا في سبيل الله ننشر بندنا.. ونسأل رب العرش نصرة جندنا).
ويضيف أبو حمدان أن البيارق رافقتها أيضا العديد من العبارات ذات المعاني الدينية مثل: العزة لله، نصرٌ من الله، النّصر القريب، المستعان بالله.
وتحدد مساحة البيرق تبعا لعدد سكان القرية، وحجم البلدة، مثلا مساحة بيارق المدن في محافظة السويداء ذات الكثافة السكانية العالية كالسويداء، وصلخد، وشهبا تختلف عن مساحة بيارق القرى الصغيرة، إذ تبلغ مساحتها ما يقارب مترين مربعين، وهو الحجم الأكبر للبيارق، أما أصغر البيارق فمساحته متر مربع واحد.
ويقول جهاد صيموعة -الذي توارثت عائلته حمل بيرق بلدة عرمان- للجزيرة نت إن البيرق رمز معروف أصيل يرتبط بالأرض وبالكرامة الوطنية، ويختلف حجمه وشكله من قرية إلى أخرى.

طقوس وتضحيات
وهناك شروط محددة لمن يستحوذ على حمل البيرق، كالشجاعة والقوة الجسدية والحكمة، بالإضافة إلى ضرورة وجود عزوة مقرّبة من حامل البيرق. وتبقى بيارق الدروز في مضافات من يحملها في أوقات السلم، ولا تخرج إلا وقت الحرب، وفق طقس محدد لا يتبدل. وقد اكتسبت بيارق الدروز بمرور الوقت قوة إيحائية كبيرة، ذات مدلولات نفسية استطاعت حشد المقاتلين تحتها، حسب جهاد صيموعة.
ويوضح أبو حمدان أن للبيارق قدسية خاصة لدى الدروز، وثمّة مراسم خاصة لإخراج البيرق، حيث يسير عازف القصب (المجوز) بالمقدّمة لإثارة حماس المجاهدين، ويسير خلفه لاعب السيف، وبعده يسير حامل البيرق، وتصطف البيارق عند اجتماعها في ساحة المعركة وفق خط واحد من البيرق الأكبر عددا، وصولا إلى البيرق الأصغر عددا، وكل بيرق يعرف مكان تموضعه سواء على الميمنة أو على الميسرة.
ولا يجوز أن يقع البيرق على الأرض حتى ولو بذلت البلدة كلّ مقاتليها لأجل منع حدوث ذلك، وهنا يوضح حمزة حمزة الذي توارثت عائلته حمل بيرق قرية رساس بأن عائلته فقدت 7 شهداء في يوم واحد لكي لا يقع بيرق القرية على الأرض.
ويقول حمزة للجزيرة نت “بعد الانتصار في معركتي المزرعة والكفر ضد الفرنسيين، كانت معركة المسيفرة في سبتمبر/أيلول 1925، وكان يوسف حمزة حاملا لبيرق قرية رساس، وبعد استشهاده حمل البيرق شقيقه سليمان، وحين استشهد سليمان حمل البيرق أخوه سليم، ثم شقيقهم الرابع مهنا، فالخامس نصر الدين، وعندما وصل الخبر إلى والدهم الشيخ سلمان، وكان في الـ86 من عمره يوزّع الطعام والماء على المقاتلين، أقسم بأن يكمل القتال، ليستشهد في معركة المسيفرة مع أبنائه الخمسة، وحين وصل الخبر لزوجته ماتت من شدّة الحزن”.
وقدّمت عائلة علم الدين التي توارثت حمل بيرق السويداء 19 شهيدا خلال الثورة السورية الكبرى، وبحسب تركي الصالح أحد الذين لا يفارقون مضافة سلطان باشا الأطرش، فإن بيرق مدينة السويداء قدّم 3 أخوة شهداء وخلال دقائق معدودة منعا لسقوط البيرق على الأرض، وهم سليمان وخليل وحسين علم الدين، ثم لحق بهم ابن عمهم فرحان علم الدين.

أبطال البيارق
ويقول الشاعر عدنان علم الدين الذي توارثت عائلته حمل بيرق السويداء للجزيرة نت: “يُعد سالم علم الدين من أبرز من حمل بيرق السويداء، وقد استشهد بعد أن أحرقه الفرنسيون في معركة المسيفرة”.
ويحفظ تاريخ المعارك التي خاضها الدروز الكثير من مآثر البيارق، بحيث فقدت بيارق قرى مثل الرحى، وعراجي، ودوما نصف عدد مقاتليها في معركة واحدة، وكان سلطان الأطرش القائد العام للثورة السورية يعتمد على بيارق أكثر من غيرها.
وفي معركة الكفر، كان سلطان باشا الأطرش قد رفض التحرك قبل وصول بيرق عرمان وبيرق ملح وبيرق إمتان، وحين وصل بيرق ملح (كان يحمله شهاب غزالي) واصل المسير باتجاه بلدة الكفر، وسارت خلفه باقي البيارق، وانتصروا في تلك المعركة، وقيل حينها كان النصر بوجه بيرق ملح.
ويقول حسن غزالي، الذي تحتفظ عائلته بحمل بيرق بلدة ملح، إن تاريخ البيرق يرجع إلى الفترة ما بين 1865 و1870 في العهد العثماني بعد انتقال العائلة من لبنان إلى بلدة عرى ثم رساس وأخيرا إلى بلدة عنز، ثم طلب أهل قرية ملح من آل غزالي قبل سيطرة الدولة العثمانية الانتقال إلى منطقتهم، وقد اشترط آل غزالي رفع علمهم الخاص (البنديرة) بالإضافة إلى مطالب أخرى.
وشارك بيرق آل غزالي في معركة خراب عرمان وفي معركة المسيفرة، يضيف غزالي للجزيرة نت “يُعتبر بيرق ملح رمزا للنصر، كما كان يصفه سلطان باشا الأطرش، لأنه لم يعرف الهزيمة في أي معركة خاضها، وبعد آخر ظهور له في عيد الاستقلال تم إرسال نسخة عنه إلى ضريح الباشا سلطان”.

توارث البيارق في الثقافة الدرزية
تتوارث البيارق في عائلات الدروز من جيل إلى جيل، حيث يُنقل البيرق عادة ضمن عائلة واحدة وفق تراتبية محددة. ولكن في بعض الحالات، يمكن أن ينتقل البيرق من عائلة إلى أخرى. يوضح بشار أبو حمدان، مؤلف كتاب سيوف وبيارق، أن “بعد استشهاد حامل البيرق، يحمله شخص قريب منه، وتنتقل العائلة التي كانت تحتفظ بالبيرق بها، ويظل في حوزتها بعد انتهاء الحرب بموافقة أهل البلدة”.
وفي بعض الأحيان، قد تجد بيرقين في نفس القرية، كما حدث في قرية نجران. يوضح معروف نصر، أحد أفراد عائلة رفعت بيرق نجران، قائلاً: “كان هناك بيرق لآل نصر وآخر لآل أبو فخر، وكان كل بيرق يمثل رمزًا خاصًا يعكس هوية العائلة. البيارق ظهرت لأول مرة مع الحروب التي شهدها الجبل منذ العهد العثماني، بدءًا من عام 1837، ثم في معركة قرّاصة 1852”.
وفي بعض الحالات، يمكن أن يحمل البيرق شخص غير درزي. فعلى سبيل المثال، يقول سعيد المغوّش من قرية خلخلة: “استشهد 16 رجلاً من قرية خلخلة خلال الثورة السورية الكبرى، وكان نمر المغوّش أول من حمل بيرق خلخلة. وبعد استشهاده، حمله عبد الله الشلّبي، وهو مسلم سني من قرية طفس بدرعا، وكان يعيش في قرية خلخلة”. وأكد المغوّش أن هذا يوضح عدم وجود تفرقة طائفية بين أبناء الوطن، خاصة في أوقات مواجهة العدو الخارجي، وأضاف قائلاً: “لا يزال التواصل قائماً بيننا وبين عائلة عبد الله الشلّبي، رغم انتقالهم إلى دمشق”.
ألقاب البيارق
تعرف بعض بيارق الدروز بألقاب مميزة، مثل بيرق عرمان الذي يُلقب بـ “مفتاح الحرايب” بسبب عدد المقاتلين الشجعان الذين حملوه، وبيرق صلخد الذي يُسمى “بالزغابة” لارتباطه بشباب يافعين كانوا يقاتلون تحته، أما بيرق قرية رشيدة فقد لُقب “بالصيفور” نظرًا للونه الأصفر، وبيرق قرية نجران والبيارق المحيطة بها سميت بـ “بيارق اللجاة”.
وكان آخر ظهور لبيارق الدروز في فبراير 1960، حين زار الرئيس جمال عبد الناصر محافظة السويداء، حيث التقى بسلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية. وكان ذلك بمثابة تكريم للرئيس عبد الناصر، حيث خرجت البيارق في ذلك التاريخ.
ومع مرور الوقت، تم استعادة فكرة البيارق بشكل طقوسي عام 2013، على يد الشيخ وحيد البلعوس، مؤسس حركة “رجال الكرامة”، التي كانت معارضة لنظام بشار الأسد. اعتمدت الحركة في تشكيلاتها المقاتلة على البيارق، ولكنها لم تكن البيارق الأصلية التي حملها الدروز في مواجهاتهم مع العثمانيين والفرنسيين، بل كانت بيارق جديدة تحمل أسماء عائلات أو قرى وتستند إلى علم الطائفة الدرزية.
وشهدت انتفاضة السويداء ضد نظام الأسد في أغسطس 2023 حضورًا لافتًا لهذه البيارق المستحدثة. رافقت هذه البيارق الانتفاضة لمدة نصف عام، قبل أن يتراجع حضورها تدريجيا مع تصاعد عدد الأحزاب والأجسام السياسية التي أفرزتها هذه الانتفاضة.