الديمقراطية والإسلام: مواقف الحركات الإسلامية تجاه العلاقة بين الحداثة والشريعة
ظلّت أسئلة الديمقراطية والإسلام والحداثة محور اهتمام الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، وفتحت أمام الحركات الإسلامية العديد من النقاشات حول هذه القضايا الجوهرية. وباتت مواقف هذه الحركات من الديمقراطية أحد المعايير الأساسية التي اعتمدها المفكرون والباحثون العرب والأجانب لتصنيف الحركات الإسلامية والتمييز بينها.
إمكانية التوفيق بين الإسلام والديمقراطية
يعتقد بعض الإسلاميين أن هناك إمكانية للتوفيق بين الإسلام والديمقراطية، حيث يرى فريق منهم أن الديمقراطية ما هي إلا تطبيق لمفهوم الشورى في القرآن الكريم. هذا الفريق يستند إلى الآيات القرآنية والسنة النبوية، بالإضافة إلى بعض الآراء الاستثنائية في الفقه الإسلامي التي تعتبر الشورى ملزمة، مؤكداً أن المبادئ الديمقراطية لا تتعارض مع الإسلام.
وثيقة المدينة ودعائم العدل والتعددية
في هذا السياق، يستند فريق آخر إلى وثيقة المدينة التي يعتبرونها “أول عقد مواطنة في التاريخ”. يعتقد هذا الفريق أن الوثيقة التي تضمّنت حثًا على العدالة والتعددية وحماية الأقليات، والتي جعلت من اليهود والمسلمين أمة واحدة، تُعد مثالاً يُحتذى به في تطبيق الديمقراطية وفقًا للشريعة الإسلامية.
الديمقراطية والإسلام: خلافات جوهرية
من جهة أخرى، يرى فريق من الإسلاميين أن هناك تعارضًا جذريًا بين الديمقراطية والإسلام. ينقسم هؤلاء إلى فريقين: الأول تقليدي، حيث يعتبر أن الديمقراطية تتناقض مع التصور الإسلامي للسلطة والحكم. الثاني جهادي، الذي يرى أن الديمقراطية ليست مجرد تعارض فقهي بل كفر صريح، ويمضي إلى أبعد من ذلك ليصف الديمقراطية بـ”طاغوت العصر”، ويستند الفريقان في هذا الرأي إلى الكتاب والسنة اللذين يؤكدان أن الحكم والتشريع هما لله وحده وليس للشعب أو البرلمان.
خلاصة النقاش:
تتباين مواقف الحركات الإسلامية من الديمقراطية، فمن التأكيد على إمكانية التوفيق بين الإسلام والديمقراطية، إلى رفضها بشكل مطلق باعتبارها تتناقض مع جوهر الشريعة الإسلامية. هذه الاختلافات تسلط الضوء على تطور الفكر الإسلامي في مواجهة التحديات الحديثة، وتكشف عن الصراع المستمر بين التفسير التقليدي للإسلام وضرورة التأقلم مع المتغيرات السياسية والاقتصادية في العصر الحالي.

الديمقراطية والإسلام: بين الفكر المجدد وتحولات الفكر السياسي
تعددت التصورات والتفريعات التي تناولت العلاقة بين الديمقراطية والإسلام، وقد تباينت تلك التصورات بين قناعات ثابتة وتلك المتأثرة بالتحولات المجتمعية والفكرية والسياسية والاستراتيجية. وتُعزى هذه التحولات إلى موجة الديمقراطية العالمية التي بدأت مع نهاية ثمانينيات القرن الماضي، مما دفع العديد من المفكرين والمثقفين العرب والغربيين إلى تناول هذه القضايا الشائكة التي تتعلق بالتجديد الديني، والحداثة، والديمقراطية، والليبرالية، والإسلام السياسي، خصوصًا بعد موجة “الربيع العربي” التي أطاحت بالعديد من الأنظمة السياسية في العالم العربي.
أدت تلك التحولات إلى إثراء المكتبة العربية بالكثير من الدراسات والكتابات التي سلطت الضوء على هذه القضايا الفكرية المهمة، وفي مقدمتها تلك التي تناولت موضوعات مثل التجديد الديني، وحداثة الفكر السياسي، وتحليل مفاهيم الديمقراطية والحرية والمساواة، بالإضافة إلى دور المرأة في السياسة العربية.
أعمال كبار المفكرين الإسلاميين
من بين الأعمال المهمة التي أثرت هذا المجال من الكتابات، نجد مؤلفات العديد من القادة الإسلاميين والمفكرين الذين كان لهم دور بارز في الفكر الإسلامي المعاصر. في مقدمة هؤلاء المفكرين يأتي حسن عبد الله الترابي، المفكر والزعيم السياسي السوداني الراحل، الذي أبدع العديد من الدراسات حول العلاقة بين السياسة والإسلام، مثل كتابه “السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع” الذي أصدره في عام 2003 أثناء سجنه بعد اختلافه مع نظام الحكم في السودان.
أيضًا من بين هؤلاء المفكرين، راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسية، الذي اعتقل في عام 2023، وصاحب العديد من المؤلفات، منها كتابه “الحريات العامة في الدولة الإسلامية” بجزأيه الأول الذي صدر في 1993 والثاني في 2012، وكتاب “الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام” الصادر عن مركز الجزيرة للدراسات في نفس العام.
الغنوشي والديمقراطية الإسلامية: تطور الفكر والممارسة
تعد مؤلفات راشد الغنوشي من أبرز الكتابات التي أثارت اهتمام الباحثين والمفكرين في العالمين العربي والغربي، حيث تناول فيها اجتهاداته الفكرية حول العلاقة بين الديمقراطية والإسلام. تلك الاجتهادات ليست فقط على مستوى التأليف، بل تجسدت أيضًا في ممارساته السياسية في تونس. ومن بين أبرز الأعمال التي تناولت فكر الغنوشي، كتاب الباحث الأميركي أندرو مارش الذي صدر في عام 2023 بعنوان “حول الديمقراطية المسلمة: نصوص وحوارات”، والذي نُشر عن “منشورات جامعة أكسفورد”. الكتاب يتناول مسار الغنوشي الفكري والسياسي، وتحولاته الكبيرة من “الديمقراطية الإسلامية” إلى “الديمقراطية المسلمة”، ويستعرض آراءه ومواقفه في حوار طويل معه.
وأشار أندرو مارش إلى أن دوافع تأليفه لهذا الكتاب تعود إلى اهتمامه العميق بمفاهيم الإسلام السياسية مثل “الاستخلاف” الذي يعتبر مبدأ محوريًا في الفكر الإسلامي. كما أشار إلى تأثير “الربيع العربي” على فكر الغنوشي، وتحديدًا في تونس، التي كانت من أولى الدول التي شهدت تحولات كبيرة في سياقات السياسة والديمقراطية بعد 2011.
خاتمة: الفكر الإسلامي والسياسي بين التقليد والتجديد
تظل الكتابات المتعلقة بالعلاقة بين الإسلام والديمقراطية مفتوحة على نقاشات فكرية وسياسية عميقة، وخاصة تلك التي تناولتها أعمال المفكرين مثل راشد الغنوشي و حسن الترابي. وبينما يواصل العالم العربي سعيه نحو تجديد الفكر السياسي والإسلامي، تظل هذه الكتابات مرجعًا هامًا لفهم التحولات التي يشهدها هذا الفكر في سياق تطور المجتمعات العربية والإسلامية نحو الديمقراطية والمشاركة السياسية.

حركة النهضة التونسية
ويعرض الأكاديمي الأميركي والأستاذ بجامعة “ماساتشوستس” في مقدمته لهذا الكتاب، والتي تفوق 30 صفحة، الأسباب التي دفعته إلى تأليفه مع الغنوشي، ولجمع وترجمة مجموعة من المقالات إلى اللغة الإنجليزية وهي غير معروفة بالنسبة إلى القارئ الغربي.
وقد تم ذلك بعدما عمل مع جامعة “ييل” الخاصة في كنتيكيت على ترجمة كتاب “الحريات العامة في الدولة الإسلامية” إلى الإنجليزية، وهو ما فتح أمامه المجال للقاء الغنوشي والتواصل معه بشكل مباشر، والكتابة عن العشرية الديمقراطية بتونس، والتي كان للغنوشي دور كبير في إنجاحها.
حيث لعب الغنوشي دورا محوريا على مستوى الممارسة السياسية في فترة الانتقال الديمقراطي في تونس بعد الثورة، ثم في فترة “التوافق” التي جمعته بالرئيس السابق الباجي قائد السبسي.
وتميزت حركة النهضة عن غيرها من الحركات الإسلامية بتقديم تنازلات كبيرة لمعارضيها العلمانيين من أجل المحافظة على استقرار تونس، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك وتخلت عن السلطة السياسية، التي حصلت عليها في انتخابات حرة ونزيهة، لصالح حكومة تكنوقراطية.

كما أنها أعلنت رسميا في مؤتمرها العاشر في مايو/أيار 2016، بعد عامين من اعتماد دستور ديمقراطي، تمت صياغته بعد ما يقرب من 3 سنوات من المداولات والمفاوضات الشاقة في مجلس تأسيسي وطني، أنها تجاوزت تسمية “الإسلام السياسي” وعرّفت نهجها باسم “الديمقراطية المسلمة”.
ودعت إلى حوار مع مجموع الديمقراطيين المسلمين من أجل سن نهج صحيح يقوم على رفض أي تناقض بين قيم الإسلام والحداثة، وفق ما جاء في البيان الختامي لمؤتمر النهضة العاشر.
وهو ما رأى فيه الكثير من المراقبين والمتتبعين لحركة النهضة قطيعة حادة وانفصالا عن النهج التاريخي والأيديولوجي الذي خطته الحركة لنفسها منذ البداية.
ويضيف البروفيسور أندرو مارش في أول لقاء بالعالم العربي لتقديم هذا الكتاب بعد لقاءات خصصت له بتركيا وببعض الدول الغربية، أن ما يتعرض له الغنوشي من اعتقال إلى غاية اليوم يعد انتكاسة كبيرة للتجربة الديمقراطية في تونس.
وأن هذا الوضع “يعكس التحديات التي تواجه الديمقراطية المسلمة، ليس فقط كتجربة سياسية، ولكن أيضا كمفهوم فكري يسعى إلى تحقيق التعددية والحرية ضمن إطار إسلامي”.
يشير مارش إلى أنه على الرغم من أن ظاهرة “الديمقراطية الإسلامية” كانت موضوعا لبعض الدراسات، فإن هذا الكتاب، على حد قوله، هو أول عمل باللغة الإنجليزية يقدم ترجمة لنصوص “المصدر” الأولية التي توضح بالتفصيل معالمه الأيديولوجية، لأنه يقف على نموذج حي هو حزب النهضة التونسي الذي تجاوز الإسلام السياسي الكلاسيكي، ودور مؤسسه راشد الغنوشي في تطوير مفهوم “الديمقراطية المسلمة”، الذي يراه تطورا فكريا يتجاوز الإسلام السياسي التقليدي.
العلاقة بين الإسلام والديمقراطية
- فهل “الديمقراطية المسلمة” مجرد مصطلح سياسي، أم أنها تمثل رؤية فكرية متكاملة تتجاوز الإسلام السياسي؟
- وهل هي أيديولوجية أم نظرية حول السياسة من وجهة نظر إسلامية؟
- وما أوجه اختلافها عن الإسلام السياسي أو النظريات السابقة لـ “الديمقراطية الإسلامية”؟
- وكيف تختلف عن النظريات غير الإسلامية للديمقراطية البرلمانية التعددية؟
- وهل الأمر يتعلق بتسويق سياسي في مرحلة الانتخابات فقط أم بقرار إستراتيجي مناهض للأحزاب الأخرى المعادية لدمقرطة الإسلام؟
هذه بعض من الأسئلة الأساسية المؤطرة لكتاب “حول الديمقراطية المسلمة” الذي يناقش فيه الأكاديمي أندرو مارش العلاقة بين الإسلام والديمقراطية والعدالة والتعددية، ويقدم محاولة فريدة لتفسير هذه الظاهرة أيديولوجيًا من خلال ترجمة 10 مقالات مركزية لراشد الغنوشي تطور مقاربة متميزة للسياسة والديمقراطية والخلاف، فضلا عن حوار فلسفي مطول بين الغنوشي أحد مفكري الحركة الإسلامية والأكاديمي السياسي أندرو مارش.
وعلى هذا الأساس جاء الكتاب موزعا إلى مقدمة عامة تحمل عنوان “من الديمقراطية الإسلامية إلى الديمقراطية المسلمة: راشد الغنوشي في الفكر والعمل”، و10 فصول.
- الأول منها يحمل عنوان “الحريات الأساسية في الإسلام”
- والثاني “جدلية الوحدة والاختلاف والتعددية السياسية في الإسلام”
- والثالث “متى يكون الإسلام هو الحل؟”
- والرابع عن “الحرية أولا”
- والخامس “بين سيد قطب ومالك بن نبي: عشر نقاط”
- والسادس حول “الإسلام والمواطنة”.
- ثم الفصل السابع حول “مشكلات الخطاب الإسلامي المعاصر”
- والثامن حول “العلمانية والعلاقة بين الدين والدولة من منظور حزب النهضة”
- والتاسع حول “دلالات ومتطلبات دستور ما بعد الثورة”.
- أما الفصل العاشر المعنون بـ “حقوق الإنسان في الإسلام” فيضم حوارات فلسفية لاهوتية حول الديمقراطية والتعددية والإسلام والعلمانية للأكاديمي أندرو مارش مع زعيم حزب النهضة التونسي راشد الغنوشي.
وهي حوارات يتتبع فيها مسار هذا الزعيم السياسي الاستثنائي، الذي بدأ علمانيا وقوميا، وتحول إلى الحركة الإسلامية عبر حزب النهضة، وتعرض إلى الكثير من المضايقات والاعتقال والتعذيب في ثمانينيات القرن الماضي.
كما حكم بالإعدام مرتين في التسعينيات، ما اضطره إلى البقاء في المنفى بلندن لمدة 21 عاما من 1989 إلى غاية2011، بسبب أفكاره وتصوراته التي لم تكن تجد صدى لها من طرف الكثير من معارضيه، خاصة حينما حاول تقديم نموذج فكري جديد يمكن أن يلهم الدول الإسلامية الأخرى التي تسعى إلى تحقيق التغيير السياسي والاجتماعي.
بَيد أن خصومه من الإسلاميين والعلمانيين الذين يؤمنون باستحالة التوفيق بين الإسلام السياسي والديمقراطية، كانوا يصفون التيارات التي تتماهى مع الديمقراطية بالتلفيق، ومحاولة أسلمة الديمقراطية أو دمقرطة الحركات الإسلامية كإجراء تكتيكي مرحلي للوصول إلى الحكم ثم الانقلاب على الديمقراطية لصالح دولة الخلافة التاريخية، رغم أن حركة النهضة أعلنت الانسحاب من المشاركة السياسية في الحكومة حفاظا على الديمقراطية والسلم والوطن.
ولهذا فالغنوشي حسب مارش، ليس مجرد سياسي، بل هو “مفكر ومجدد سعى إلى التوفيق بين التراث الإسلامي ومتطلبات الديمقراطية الحديثة”، وهو ما حاولت هذه الحوارات الغنية والمفيدة الوقوف عنده عبر التركيز على عصارة فكر الغنوشي وأطروحته السياسية، وتقديم الخصائص الأساسية للديمقراطية المسلمة التي تدمج القيم الإسلامية في إطار ديمقراطي تعددي بما يجعلها تتميز عن الديمقراطية الإسلامية، والتي اجتهد في إبرازها راشد الغنوشي عبر التركيز على التعددية السياسية والحقوق والحريات وعلى رأسها حرية المعتقد والضمير والإيمان بالدولة المدنية والعدالة.
من الديمقراطية الإسلامية إلى الديمقراطية المسلمة
وانطلاقا من التجربة التونسية التي تختلف عن تجارب بلدان مثل تركيا، والمغرب، وماليزيا، وباكستان، ومن داخل المنظومة الفكرية للشيخ راشد الغنوشي وحركة النهضة، يبرز الأكاديمي الأميركي الكثير من الفوارق الجوهرية بين الديمقراطية الإسلامية التي تسعى إلى فرض نموذج إسلامي على الدولة، وبين الديمقراطية المسلمة التي تعترف بالتعددية كحقيقة سياسية لا يمكن تجاوزها، مشيرا إلى أن التجربة التونسية فرضت هذا التحول، حيث لم يعد من الممكن تجاهل الأحزاب العلمانية، والليبرالية، واليسارية، مما استدعى تبني نهج أكثر مرونة يقوم على مرتكزات أساسية لتخطي مجموعة من الصعوبات والمنزلقات، وعلى رأسها الالتزام بالحرية، حيث يرى الغنوشي أن “الحرية ليست مجرد قيمة ليبرالية، بل هي شرط أساسي لأي عمل أخلاقي وديني، ولا يمكن تحقيق الفضيلة الدينية دون حرية حقيقية”.
ثم الاعتراف العميق بالتعددية السياسية، على اعتبار أنها ليست أمرا سحريا، بل عمل أنطولوجي للسياسة. مستدلا على “وثيقة المدينة” أو صحيفة المدينة التي وضعها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، باعتبارها أول دستور مدني في تاريخ الدولة الإسلامية، والتي تمثل حسب الغنوشي “نموذجا لدولة تعددية تنبني على توافق دنيوي قائم على المصالح المدنية وليس على الانتماء الديني أو العقدي”.
ويشير مارش في تقديمه لهذا الكتاب إلى أن الغنوشي بعد عقود من النضال السياسي انتقل من الطوباوية إلى الواقعية السياسية، وأضحى يتبنى رؤية أكثر واقعية، لأنه أدرك أن السياسة ليست مجالا للمثاليات، بل هي مجال لإدارة المصالح وتقليل الأضرار.
وهنا ركز على تحول مثير لدى الغنوشي في رؤيته للعلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين، حيث لم يعد ينظر إلى الصراع السياسي من منظور ديني يفرق بين العدو والصديق أو الأخ المتدين والكافر، بل من موقع آخر في إطار الديمقراطية المسلمة لأن العدو أصبح هو “المعارض للديمقراطية، سواء كان إسلاميا أو علمانيا” وأصبح الصديق هو “المؤمن بالديمقراطية، بغض النظر عن انتمائه الأيديولوجي ولكن خارج الدكتاتورية والاستبداد ومن دون أي مساندة من أي بلد خارجي”.
ويخلص مارش في هذا الكتاب إلى أن نجاح الديمقراطية المسلمة يعتمد بالأساس على قدرتها على تقديم بديل عملي وفعال للاستبداد، بديل نابع من الداخل يقوم على الحرية والتعددية وتحقيق العدالة.
فبدلا من تقديم نموذج مثالي للدولة الإسلامية برأيه، تسعى الديمقراطية المسلمة إلى خلق نظام سياسي يسمح بالتعايش بين مختلف التيارات، ولهذا فإن الديمقراطية المسلمة بحاجة إلى ديمقراطيين، ويقول إنه “لا يعرف أي شخص ملتزم بها أكثر من الشيخ راشد الغنوشي الذي يمضي رمضانه الثاني في السجن”، ويرى في اعتقاله “اختبارا حقيقيا لمستقبل الديمقراطية المسلمة”، وأن استمرار سجنه يعكس “صعوبة ترسيخ القيم الديمقراطية في العالم الإسلامي”.
ويختم حديثه عن الكتاب بالقول: “الديمقراطية ليست مجرد نظام حكم، بل هي ثقافة تحتاج إلى أناس يؤمنون بها. وإذا كان الخيار بين الديمقراطية والاستبداد أو الحرب الأهلية، فإن الديمقراطية المسلمة تظل الحل الأمثل لضمان الاستقرار والتعددية في المجتمعات المسلمة”.

نقلة نوعية في مسار الحركة الإسلامية: ديمقراطية الإسلام والتحديات الفكرية
في الملتقى الفكري حول “الإسلام والمواطنة” الذي نظمه منتدى المتوسط للتبادل والحوار، أكد المشاركون على أهمية كتاب “حول الديمقراطية المسلمة” للمفكر السياسي أندرو مارش، الذي يتناول فكر راشد الغنوشي. الكتاب لا يعتبر مجرد تجميع لمقالات وحوارات امتدت على مدار عامي 2021 و2022، بل يمثل نقلة نوعية في مسار الحركة الإسلامية وقراءتها للديمقراطية. وفقًا للباحث بلال التليدي، فإن الكتاب يتناول آخر إنتاجات الغنوشي الفكرية ويمنح فكرته أهمية أكاديمية كبيرة، حيث لم يسائل المؤلف الأميركي أفكار حركة النهضة بل استعرضها بعمق.
الفكر الغنوشي: من القطعية إلى التحولية
يُعتبر الفكر الغنوشي من أكثر الأنساق الفكرية في الحركة الإسلامية التي تجمع بين القطعية والتحولية. هذه المزاوجة تتطلب من المفكرين إعادة النظر في هذه الأدبيات وتصنيفها مجددًا وفقًا للتحولات السياسية والاقتصادية التي تمر بها المجتمعات العربية. وفي هذا السياق، يرى حسن أوريد أن الكتاب يمثل نقلة هامة في مرجعية الحركة الإسلامية، حيث يبتعد عن مرجعية سيد قطب التي ترى أن “الحاكمية لله” ولا شيء غيرها، ويقدم رؤية أكثر مرونة، حيث يرى أن “الحاكمية لله” لا تتناقض مع سيادة الشعب، وأن المسؤولية في الحكم لا تعني التقسيم بين المسلمين وغير المسلمين، بل تتوجه نحو الحوار والتوافق.
راشد الغنوشي: مفكر إسلامي يبحث عن المواءمة بين الأصالة والحداثة
يُعزى الفضل في هذه النقلة الفكرية إلى راشد الغنوشي، الذي يُعتبر مفكرًا من طراز مميز، حيث جاء من خلفية فلسفية أكثر من كونه فقيهًا تقليديًا. كما أن تجربته السياسية الواسعة، وخاصة منفى لندن، منحت فكره عمقًا أكبر وجعلته قادرًا على المواءمة بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي، مما أفضى إلى تبنيه لمفهوم “الديمقراطية المسلمة”. وبهذا، لا ينظر الغنوشي إلى الديمقراطية كبديل، بل كآلية أساسية للمشاركة الشعبية التي يجب تبنيها في العصر الحديث.
الكتاب كمرجع لمستقبل المجتمعات الديمقراطية
يقدم كتاب “حول الديمقراطية المسلمة” رؤى ملهمة لمستقبل المجتمعات العربية والإسلامية، فهو لا يقتصر على الحديث عن العلاقة بين الديمقراطية والإسلام، بل يتناول علاقة الإسلام بالحداثة ككل. ويُعد الكتاب مرجعًا قيمًا للمفكرين والباحثين الذين يسعون لإيجاد توازن بين الأصالة والحداثة في بناء مجتمعات ديمقراطية قائمة على القيم الإسلامية.
التجربة الديمقراطية في تونس: دروس وعبر
من جهة أخرى، يسلط الكتاب الضوء على التجربة الديمقراطية في تونس، التي على الرغم من التوقعات العالية لنجاحها، واجهت تحديات كبيرة. كما أشار رضا إدريس، مستشار الغنوشي للعلاقات الخارجية، إلى أن الديمقراطية التونسية لم تثمر عن الازدهار الاقتصادي، إذ أن “المجتمع التونسي كان ينتظر الثروة من الثورة”. ويرى إدريس أن النخبة التونسية، رغم نجاحها في صياغة دستور متقدم، بحاجة إلى وقت طويل لتجاوز الشعبوية وبناء نهضة ديمقراطية جديدة تركز على التنمية الاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
مواقف الحركات الإسلامية تجاه الديمقراطية
ظلّت أسئلة العلاقة بين الديمقراطية والإسلام محورًا حيويًا في الفكر الإسلامي الحديث، وتباينت مواقف الحركات الإسلامية حول إمكانية التوفيق بين الشريعة الإسلامية والديمقراطية. ويذهب بعض الإسلاميين إلى أن الديمقراطية ليست إلا تطبيقًا لمفهوم الشورى في الإسلام، مستندين إلى الآيات القرآنية والسنة النبوية التي تدعو إلى الشورى والعدالة.
من جهة أخرى، يرى فريق آخر أن وثيقة المدينة هي أول عقد مواطنة في التاريخ، حيث حثت على العدالة وحماية الأقليات، مما يجعلها نموذجًا يُحتذى به في تطبيق الديمقراطية وفقًا للشريعة الإسلامية.
في المقابل، ينقسم آخرون إلى فريقين: الأول يعتبر أن الديمقراطية تتعارض مع التصور الإسلامي للسلطة، بينما يرى الفريق الجهادي أن الديمقراطية ليست مجرد تعارض فقهي، بل كفر صريح، ويصفونها بـ”طاغوت العصر”.
خلاصة النقاش: بين التجديد والتقليد
تظل العلاقة بين الديمقراطية والإسلام مسألة محورية في الفكر الإسلامي المعاصر، حيث تتباين الآراء حول كيفية التوفيق بين الشريعة الإسلامية والمبادئ الديمقراطية. تواصل الحركات الإسلامية تطوير مواقفها وتحليل التحديات التي تطرأ على مجتمعاتها، سعيًا لتحقيق التوازن بين الأصالة والتحديث بما يتناسب مع متطلبات العصر.